تُعد الطائفة الدرزية إحدى الأقليات الدينية التي تعرضت لموجات متكررة من الاضطهاد عبر العصور. انطلاقاً من نشأتها في القرن الحادي عشر وحتى العقود الأخيرة، واجه الدروز تحديات وجودية متواصلة، تميزت بالعنف المؤسسي، والتهميش السياسي، والاستهداف الديني. وتتطلب قراءة هذا التاريخ مقاربة حيادية قائمة على التوثيق، بعيداً عن التحيزات الطائفية أو الرؤية الاختزالية.
1
البدايات الفاطمية والاضطهاد الأول
نشأة العقيدة وأول المحن
انبثقت العقيدة الدرزية عن التيار الإسماعيلي في ظل الدولة الفاطمية، حيث أعلن حمزة بن علي في مايو 1017 تأسيس العقيدة الجديدة المرتكزة على ألوهية الحاكم بأمر الله. ومع اختفاء هذا الأخير عام 1021، بادرت الدولة الفاطمية - بقيادة الظاهر لإعزاز دين الله - إلى اضطهاد أتباع هذه العقيدة الجديدة. قُتل الآلاف في مذابح متعددة، أبرزها ما وقع في أنطاكية وحلب.
تحول العقيدة إلى نظام مغلق
رداً على هذه المحن، أعلن بهاء الدين أبو الحسن إغلاق باب الانضمام إلى العقيدة عام 1043، فيما عُرف بـ"رسالة الغيبة". كان هذا القرار لحماية الطائفة من الاختراق، ولترسيخ هوية دينية-اجتماعية مغلقة تقوم على العزلة والتقية.
2
من المماليك إلى العثمانيين: فتاوى القتل وسياسات القمع
الشرعنة الفقهية للاضطهاد
في العصر المملوكي، اكتسب الاضطهاد طابعاً دينياً ممنهجاً، لاسيما عبر فتاوى ابن تيمية، الذي صنف الدروز كمرتدين خارجين عن الإسلام، مما مهد لحملات قمعية قادها سلاطين المماليك ضدهم.
الحقبة العثمانية: حملات عسكرة وتطهير
واصل العثمانيون النهج ذاته، إذ شنت الدولة عام 1585 حملة كبرى بقيادة إبراهيم باشا، ضمت 20 ألف جندي وهدفت إلى إخضاع جبل لبنان. تم تدمير قرى درزية عديدة، وأُعدم المئات أو نُفوا، ضمن سياسة مركزية تستهدف الجماعات غير المطيعة.
3
مذابح القرن التاسع عشر: طائفية مشروطة بالتدخل الخارجي
أحداث 1860: صراع داخلي في إطار لعبة الأمم
شهد عام 1860 صراعاً دموياً في جبل لبنان ودمشق، حيث ساهم الدعم البريطاني للدروز مقابل الموارنة المدعومين فرنسياً في إذكاء العنف الطائفي. ورغم أن الخسائر الكبرى كانت في صفوف المسيحيين، فقد تعرض الدروز أيضاً لمجازر وردود انتقامية.
الهندسة الطائفية والاستقلال الذاتي
عقب الانتداب الفرنسي، أُنشئت دولة جبل الدروز عام 1921 في إطار سياسة "فرّق تسد". لكن هذا الكيان لم يكن تعبيراً عن نزعة انفصالية، بل عن هوية سياسية ترفض الخضوع لمركز سلطوي وتؤمن بالكرامة والحرية.
4
الثورة الكبرى والهوية الوطنية
اندلعت الثورة السورية الكبرى عام 1925 بقيادة سلطان باشا الأطرش، بعد إلغاء فرنسا للاستقلال الإداري لجبل العرب. وقد مثلت هذه الثورة نقطة تحول من المطالب المحلية إلى مشروع وطني شامل. دفع الدروز ثمناً باهظاً، إذ تجاوز عدد شهدائهم نصف مجموع شهداء الثورة، ما يدل على التزامهم العميق بقيم الاستقلال والسيادة الوطنية.
5
ن الاستقلال إلى التهميش: الحقبة الجمهورية والبعثية
تهميش سياسي مبكر
في مرحلة ما بعد الاستقلال، بدأت السلطة المركزية بتهميش الدروز سياسياً. الرئيس شكري القوتلي رفض تعيين وزراء دروز، وحرّض على نزاع داخلي في جبل العرب لتقويض الزعامة الدرزية التقليدية.
المنظومة البعثية: القمع وتفكيك الزعامات
في عهد البعث، تم تصفية الضباط الدروز، أبرزهم سليم حاطوم، مع تصعيد حملة قمعية هدفت إلى تفكيك البنية القيادية التقليدية للطائفة، وإعادة تشكيلها على أسس الولاء الأمني للنظام. كما مُورس تهميش اقتصادي منظم في مناطق الدروز، خاصة السويداء، لتقويض استقلالهم المادي.
6
العصر الحديث: العنف الجهادي والتهديد الوجودي
مجزرة قلب لوزة 2015
في إدلب، أقدمت جبهة النصرة على مهاجمة قرية قلب لوزة ذات الغالبية الدرزية، وقتلت عدداً من المدنيين. وقع الهجوم بعد خلاف ديني بين الأهالي وأمير التنظيم المحلي، في حادثة اعتُبرت استهدافاً رمزياً للطائفة.
هجمات السويداء 2018
نفذ تنظيم داعش في يوليو 2018 سلسلة هجمات على السويداء، أدت إلى مقتل أكثر من 220 مدنياً، واحتجاز عدد من النساء والأطفال كرهائن. هذا الهجوم مثّل ذروة استهداف الطائفة من قبل الفصائل الجهادية، وفضح هشاشة النظام الأمني الرسمي في حمايتهم.
7
آليات البقاء والتكيف
في ظل هذا التاريخ العنيف، طور الدروز استراتيجيات بقاء متقدمة: الانكفاء الجغرافي، والاعتماد على التضامن الاجتماعي الداخلي، وتبني سياسة التقية في المحيط الإسلامي. هذه الاستراتيجيات ساعدت على الحفاظ على النسيج الداخلي للطائفة رغم الاستهداف المتكرر.
8
المواقف الوطنية والدور العربي
رغم ما تعرض له الدروز من مظلوميات، فقد أبدوا التزاماً ثابتاً بالقضايا الوطنية والعربية. في الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، ساهمت مجموعات درزية في العمل المسلح ضد الاحتلال البريطاني. وفي الجولان، رفض الدروز الانضمام إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، على عكس وضع دروز 48 الذين أُجبروا على الخدمة العسكرية ضمن الجيش الإسرائيلي تحت ظروف سياسية وأمنية قاهرة.
خلاصة: نحو قراءة نقدية ومنصفة للتاريخ الدرزي
تكشف دراسة المظلوميات الدرزية عن نمط متكرر من العنف البنيوي، لا يمكن فصله عن السياق الأوسع للصراعات السياسية والطائفية. ومع ذلك، فإن رد الفعل الدرزي اتسم بالصمود والتكيف، لا بالانعزال أو الرد بالمثل. وهو ما يجعل من تجربتهم التاريخية نموذجاً يُحتذى في مقاومة التهميش مع الحفاظ على الالتزام الوطني.
إن الاعتراف بهذه المظلوميات لا يعني بالضرورة إضفاء طابع استثنائي على المعاناة الدرزية، بل وضعها في إطارها التاريخي لتجنب تكرارها مستقبلاً. والفهم العميق لهذه المراحل من تاريخ الدروز يسهم في ترسيخ مفاهيم التعددية، والعدالة التاريخية، والمواطنة الحقيقية.
المراجع العامة (روابط تُضاف عند النشر)
مصادر تاريخية حول الدولة الفاطمية ومحنة الدروز في القرن الحادي عشر
فتاوى ابن تيمية ومواقف الفقهاء من الفرق الباطنية
وثائق عثمانية حول الحملات العسكرية على جبل لبنان
أرشيف الثورة السورية الكبرى ومذكرات سلطان باشا الأطرش
تقارير بريطانية حول الثورة الفلسطينية الكبرى
تغطيات صحفية وحقوقية لمجزرتي قلب لوزة والسويداء
دراسات أكاديمية عن البنية الاجتماعية الدرزية
مراجع في علم الاجتماع السياسي حول الأقليات والهوية